نظرية الحرب الخاطفة وتطبيقتها
موضوع من اعداد الدكتور عبد الله عمران
الجزء الاول
مقدمة :
إن فن الحرب دائم التطور، حيث تحل النظريات العسكرية الحديثة، محل النظريات، التي تقادمت، وتأتي النظريات الجديدة، متوافقة في الظروف السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والتطور التقني،
وكل حرب جديدة تتطلب إعادة النظر في كل ما سبق، ويعود أصل نظرية “الحرب الخاطفة” إلى ألمانيا، فبعد أن أصبح هتلر سيد ألمانيا، عام 1933م عكف مع قادته على إيجاد نظرية جديدة للحرب، تتمشى مع تقنيات التسليح المتوافرة، وما يمكن تطويرهمستقبلاً، وبما يحقق أهدافه التوسعية بشكل سريع وحاسم، وعكف قادته على دراسة القواعد والنظريات العسكرية عبر التاريخ وما هو سائد في حينها سواء في الشرق أو الغرب، بشكل عام.
أخذت النظرية من العصور القديمة، “الاقتراب غير المباشر“، و“قوة الصدمة“، ومن سن تزو “الحرب الحاسمة“، ومنأيبامينونداس، “تركيز الجهود“، ومن الإسكندر الأكبر، “خفة الحركة وسرعة الحسم“، ومن بليزير، “الهجوم الخاطف” و“الإغارات العميقة” و“التحليل النفسي للخصم“،
ومن المعارك والحروب الإسلامية، تعزيز النجاح والمناورة بالجهود وتركيزها ضد مركز ثقل العدو، والهجوم في الدفاع والدفاع فيالهجوم، ومن جنكيزخان، “الحرب الصاعقة” و“حرب الحركة“، ومن فردريك الثاني، “خفة الحركة” و“العمل من خطوط داخلية“، و“التفوق في النقطة الحاسمة“، ومن كلاوزفيتز، “مركز الثقل للحلف المعادي” و“تحديد طبيعة الاشتباك“، ومن الحروب الأهلية الأمريكية، “إستراتيجية الإجهاد” و“خفة الحركة“، ومن فون مولكته، “ضرب الحركة” و“تجزئة العدو وتدميره على التتابع“، ومن لودندورف، “الحرب الشاملة” و“التسلل“، ومن فوللر وليدل هارت، “الحرب الميكانيكية” و“السيل المنتشر“، و“الاقتراب غير المباشر“، و“المبادئ الأولية للحرب الخاطفة“
وتبلورت النظرية وأخذت طريقها للتطبيق في الحرب العالمية الثانية، وحققت نجاحاً مذهلاً لألمانيا على المسرح العسكري.
من أبرز تطبيقات نظرية الحرب الخاطفة، في العصر الحديث، تطبيق إسرائيل للنظرية في جميع الجولات العربية الإسرائيلية، وإن كان بعضهابأشكال جديدة، مرتبطاً بتقنيات التسليح، وما طبقه ماك آرثر، القائد الأعلى للقوات الأمريكية في الشرق الأقصى، خلال الحرب الكورية 1950. ولذا عُدت نظرية الحرب الخاطفة، البداية، التي انطلقت منها، جميع النظريات العسكرية الحديثة، وعنها تطورت.
أولاً: النظرية الجديدة للحرب
مهما قيل، عن أخطاء هتلر في أهدافه وإدارته للحرب، فإنه يجب أن ينسب إليه الفضل في الانتصارات، التي أحرزتها ألمانيا في المراحل الأولى من الحرب العالمية الثانية، وإيجاد آلة الحرب، التي تستطيع أن تحقق أهدافه السياسية، وكان مسؤولاً عن تطوير أنواع جديدة من الأسلحة، والتكتكيات، والإستراتيجية العسكرية، وبتشجيع هتلر للأفكار الجديدة عن الميكنة والحرب سريعة الحركة،فإنه بذلك مهد الطريق لنظرية الحرب الخاطفة. بعد النجاح الخاطف لقوات هتلر، في عامي 1939م، 1940م شاع استخدام مصطلح“الحرب الخاطفة” Blitzkrieg، وصورته بعض الأوساط بأنه صورة من صور الهجوم، التي أغرقت دفاعات الحلفاء بطوفان من الدبابات وقوة النيران معتمدين على تفوق المدرعات الساحق. وفي الحقيقة كان ذلك بعيداً عن الواقع، إذ إن الألمان تمكنوا من هزيمة الحلفاء، بواسطة الاستخدام الجيد للقوات، الناتج عن الفكر العسكري، وليس التفوق العددي، حيث كان الحلفاء في فرنسا، يتمتعون بتفوقعددي، في كل من المشاة والمدرعات،
وكان جوهر الفكر العسكري الألماني يرتكز على:
“اختراق دفاعات العدو، في عدة نقاط مختارة، تليها هجمات سريعة لاستغلال الاختراق، وذلك لتحقيق الاختراق العميق، ثم تدمير القوة الرئيسة لدفاعات العدو“.
تدرب الألمان على أساس مبدأ “الهدف، الذي لا حد له” وذلك لوعيهم بنظريات رواد الإصلاح، مثل لودندورف، وفوللر، وليدل هارت،فبنوا تكتيكاتهم على الأساس الآتي:
1. يتولى الاستطلاع الأولي أو المخابرات، تحديد الثغرات، أو نقط الضعف في مواجهة العدو، من مستوى الفرقة وحتى مجموعة جيوش.
2. هجوم عام على مواجهة واسعة، بهدف تثبيت القوات المدافعة.
3. قوات الضربات الرئيسة، التي أساسها القوة المدرعة، تقوم بمهاجمة كل من الثغرات التي تم تحديدها، وتحقيق اختراق في مواجهات محدودة، وتقوم المدرعات، ومعها الأسلحة المعاونة، بتحقيق الاختراق العميق لخطوط العدو، مع قطع خطوط إمداداته، وإرباك مراكز مواصلاته، وبعد ذلك تقوم المشاة الميكانيكية باللحاق بالقوات المدرعة، وتستغل الاختراق وتحقق النتيجة الحاسمة.
4. تتولى المشاة تأمين أجناب ثغرات الاختراق، عند بدء مرحلة الاختراق.
طبق الألمان النظرية، أثناء الحرب الأهلية الأسبانية، ومن خلال دراستهم الدقيقة في إيجاد جميع التفاصيل اللازمة لإيجاد إستراتيجية عسكرية، ذات تحديد دقيق، وجدوا أن كل نقطة اختراق على مواجهة الفرقة، لا تحتاج إلى أكثر من مواجهة اختراق بعرض حوالي من 1ـ 2 كم، وكان هذا كافياً لتحقيق من 2ـ 3 اختراقات في هجوم رئيسي واحد ، ونصّوا أيضاً في تعليمات التدريب، على إجراءالتجميع اللازم للقوات المطلوبة، لكل مرحلة من مراحل عملية الاختراق.
وواجهتهم مشكلتان في النظرية: الأولى منها خاصة بتعرض القوات القائمة بالاختراق.للمقاومه الشديده إلا أنهم اعتمدوا على المفاجأة والسرعة، وهما عاملان كافيان لتحطيم معنويات العدو، لدرجة لا تمكنه من القيام برد فعل أو هجوم مضاد منسق، قبل قيام قوات المشاة الميكانيكية من اللحاق بالقوة المدرعة.
أما المشكلة الأخرى فخاصة بصعوبة توفير المعاونة المباشرة بعد إتمام الاختراق، وكذلك مشكلة احتلال الأرض، حيث إن المدفعية لا تتوافر لها خفة الحركة للحاق بالدبابات، كما أن المشاة يصعب عليها التقدم بسرعة كافية لاحتلال الأرض، التي استولت عليها الدبابات، وكان الحل في استخدام الطيران للمساعدة التكتيكية، خاصة القاذفات المنخفضة، وبذلك أمكن توفير المعاونة النيرانيةبسرعه تقدم للدبابات، كما حُلّت المشاة، باستخدام المشاة الميكانيكية المحملة على عربات نصف جنزير، لتوفير سرعة ملاحقة الدبابات بالمشاة.
في
مايو 1940م غزت ألمانيا غرب أوروبا، بدبابات يقل عددها عن دبابات الحلفاء، حيث كانت للقوات الألمانية 2574 دبابة، مقابل 3500 دبابة للحلفاء، أي بنسبة 1.4 : 1 لصالح الحلفاء، كما قام الألمان بتجميع فرقهم المدرعة، وحشدها في ثلاثة فيالق مدرعة، كل منها في 3-4 فرق مدرعة، وتركّز الهجوم في مواجهة محددة، حيث وصلت إلى حوالي 3ـ4 كم، وهي درجة من التركيز تجعل عملية الاختراق مؤكدة، وعندما حدث الاختراق، لم تكن لدى القوات المدافعة أي خطة تكتيكية تستطيع التعامل مع الموقف.
ثانياً: المجال القومي ونظرية الحرب الخاطفة
تعتمد نظرية الحرب الخاطفة في أساسها على مفهوم “التسلل” على المستوى العسكري، ولكن يسبق هذا التسلل إجراءات أخرى على المستوى القومي، في إطار مفهوم التسلل على المستوى السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، بهدف تفتيت مقاومة العدو أو إضعافها، وقهره من الداخل، بأقل تكاليف، وفي أقل زمن متاح، فالمهاجم يبحث عن أضعف نقطة في العدو، وقبل إعلان الحرب، يتسلل من خلالها.
1. التسلل السياسي
يهدف إلى تدمير البنيان السياسي للعدو أو تفتيته أو إضعافه، ويستخدم في ذلك العملاء، والمندوبون، وأساليب الحرب النفسية، مثل: الشائعات، وتشويه الحقائق، والتضليل، وبث التفرقة بين المجتمعات، مثل تعظيم مشكلات الفتنة الطائفية والصراعات الحزبية، أو الطبقية، أو بين النظام الحاكم والشعب. ( كما يحدث حاليا عربيا واسلاميا )
2. التسلل الاقتصادي
يهدف إلى تدمير البنية الاقتصادية للعدو، باستغلال المنافسة والصراع الاقتصادي، والأحلاف والتكتلات الاقتصادية، وأساليب الاحتكار، والإغراق، والحصار الاقتصادي. ( كما يحدث حاليا عربيا واسلاميا )
3. التسلل الاجتماعي
يهدف إلى شرخ، البناء الاجتماعي للعدو أو تدميره أو إضعافه، ويشمل كل ما يتعلق بالمجتمع والسكان، ويتحقق بأساليب التفرقة، والحرب النفسية؛ لإضعاف الروح المعنوية للعدو، ويؤدي الصراع الثقافي وحرب الإعلام دوراً مهماً في هذا المجال. ( كما يحدث حاليا عربيا واسلاميا )
4. في النهاية، بعد تحقيق الأهداف السياسية والسياسية العسكرية من التسلل في المجال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، يأتي دور التسلل العسكري، الذي يكون ذا طبيعة هجومية، لسرعة حسم الموقف العسكري، وتحقيق هدف الحرب.
ثالثاً: مبادئ نظرية الحرب الخاطفة وقواعدها
تُعدُّ مبادئ نظرية الحرب الخاطفة وقواعدها هي عوامل ارتكاز لتطبيق النظرية، ولضمان نجاح أعمال القتال، وتشمل الآتي:
1. المفاجأة
تعني توجيه الضربات للعدو، في الوقت أو المكان أو بالطريقة التي لا يتوقعها العدو وهو غير مستعد لها، وتأخذ ثلاث مستويات:
أ. المفاجأة الإستراتيجية
وتتحقق بالتركيز والتحرك للقتال، بشكل يُمكِّن المهاجم من توجيه ضربته، على جبهة معينة، بقوة متفوقة على العدو.
ب. المفاجأة الفنية
تتحقق باستخدام سلاح جديد، أو وسائل تحرك جديدة.
ج. المفاجأة في التكتيك
تتحقق باستخدام تكتيكات جديدة مناسبة للأسلحة الجديدة، وقد تتحقق من المفاجأة الفنية.
2. السرعة
أ. تحقق المفاجأة نجاحاً مؤقتاً، ما لم تستغل بواسطة السرعة، وذلك لاستغلال النجاح وتعزيزه، مع عدم تعزيز الفشل، وحرمان العدو من الوقت اللازم لإعادة تجميع قواته، وحشدها في الاتجاهات المهمة، أو اتخاذ مواقع دفاعية جديدة.
ب. السرعة تعنى المحافظة على المبادأة، وباندماج المفاجأة مع السرعة تنتج القدرة على الحركة والمناورة والحشد.
3. التفوق في القوات والنيران
أ. إن التفوق يعني تركيز الجهود في النقطة/ الاتجاه الحاسم، وتوجيهها ضد أضعف نقاط العدو.
ب. إن التفوق في القوات، يعني تحقيقه محلياً، وفي اتجاهات معينة
وبما يحقق المفاجأة والسرعة في العمل. أما التفوق في النيران، فيعني التفوق الكاسح، وليس النسبي، باعتبار أن قوة النيران، هي القوة التي تدفع الحركة خلف المناورة، وتجعلها ممكنة، ويصل هذا التفوق إلى 3 : 1 في المدرعات، ويزيد على ذلك في المشاة الميكانيكية، والقوات الجوية. كما يمكن تحقيق التفوق في النيران، بالمناورة بالنيران وحشدها في الاتجاهات الحاسمة، ويتحقق التفوق بالهجوم في مواجهة حقيقية تصل إلى حوالي 2-3 كم للفرقة المدرعة. 4. المناورة
أ. تعني وضع العدو في موقف غير ملائم، أو غير متكافئ، من خلال الاستخدام المـرن للقوات.
ب. تتحقق بالقوات والنيران، وترتبط بالسرعة والمفاجئة، وتحقيق التفوق لاستغلال النجاح.
5. العمليات الشاملة
تعنى مهاجمة العدو في كل المواجهة والعمق، وتهديد وتفتيت قوات العدو والتوغل في عمقه، وتشتيت فكره، وجهوده، وقدراته، وإمكانياته.
6. العامل المعنوي
يشمل تعزيز الروح المعنوية، وروح الهجوم للقوات، إضافة إلى التحليل النفسي والمعنوي للعدو؛ لتحديد مراكز الثقل لتجنبها، ونقط الضعف لاستغلالها.
رابعاً: إستراتيجية الحرب الخاطفة
أصبحت الحرب الخاطفة إستراتيجية، أو عقيدة عسكرية بالمفهوم الألماني، بعد تطبيقها خلال الحرب العالمية الثانية. وكان التسللInfiltration قبل الحرب عام 1917م، طبقاً لمفهوم تكتيكات لودندورف، ونظرية السيل المنتشر لليدل هارت 1922م، مفهوماً خاصاً بالمشاة، وطريقة تكتيكية، تحقق لقوات المشاة المتقدمة للأمام، سرعة عالية في أرض العدو، بأن يشقوا طريقهم عبر النقطالضعيفة للعدو، وذلك بدلاً من التقدم بالسرعة البطيئة، (معدل تقدم فرد مشاة). وبدخول القوات المدرعة والميكانيكية الحرب، وتبني إستراتيجية الحرب الميكانيكية، أصبح للتسلل مفهوم آخر يتمشى مع المعدل العالمي للتقدم في الحرب الميكانيكية، واختلف المفهوم ليكون التسلل المحمي، أو الاقتحام Irruption، أو الانقضاض Onslaught، أو الاندفاع Impression، وهو نوع من التسلل، ويحدد للقوات المهاجمة نقطة/ اتجاه الاندفاع Schwerpunkt، وترجمتها الحرفية مركز الثقل أو محور الارتكاز، وبالإنجليزية تعني Thrust Point، أي نقطة الضغط أو الدفع إلى الأمام وهي:
“تركيز قوات قوية في جبهة ضيقة، وبعد الاقتحام يأتي التغلغل والاندفاع في عمق العدو، وفي اتجاهات مختلفة، وبالإنجليزية تعنيRolling Out، أي التدفق، والانتشار، والاندفاع، لإحراز التفوق المحلي ضد نقط العدو الضعيفة“.
خامساً: الهجوم الخاطف
يعتمد الهجوم الخاطف الحديث، على الآتي:
1. هجوم عام بقوات المشاة، وأسلحة الدعم والمعاونة بالمواجهة، بهدف احتلال أجزاء من الأرض- رؤوس كباري، في اتجاه نقط الضعف للعدو.
2. سرعة طي أجنحة العدو وأجنابه، وتهديد المؤخرة، وحيث إن الجيوش الحديثة، عادة، لا تترك أجناباً معرضة، وغير مؤمنة، فإن على القوة المهاجمة إيجاد الظروف المناسبة بتركيز الضغط عليها. وعلى المهاجم أن يتغلغل، قبل أن يحتوي أو يؤمن الجزء، الذي تركه اندفاعه للأمام، وذلك بالبحث عن النقط الضعيفة، وتركيز الهجوم في اتجاهها، ومن ذلك نجد أن الانقضاض يسبقه تسلل.
3. تأتي مرحلة الانقضاض، بتركيز الهجوم على جبهة ضيقة، وتحقيق التفوق المحلى، وتوصف هذه الطرق بالألمانية، في كلمتين سكوربنكت Schwerpunkt أوفرلن Aufrollen وهما أهم مظاهر إستراتيجية الحرب الخاطفة.
أ. سكوربنكت Schwerpunkt
تعني التفوق المحلي خلال المعركة كلها، والتحركات فيها تعني البحث المستمر عن أضعف النقط، في خطوط مقاومة
واستمرار التحرك للأمام، والضغط على العدو، للمحافظة الدائمة على المبادأة والمفاجأة، ويستخدم أساساً القوات المدرعة.
ب. أوفرلن Aufrollen
تعني الاندفاع الجانبي، بالاستغلال الفوري للنجاح المحلي في “السكوربنكت“، وعلى ذلك فإن “الأوفرلن” تحمي أجناب السكوربنكت وتؤمنها، ويستخدم فيها المشاة الميكانيكية.
4. إدارة معركة الهجوم الخاطف، تتطلب وحدات هجوم، مجموعات قتال مدرعة يحقق تشكيلها عملياً الاستقلال في أعمال القتالوالقدرة على العمل معتمدة على نفسها وهذه الوحدات تشمل الوحدات المقاتلة، والعناصر المعاونة، وعناصر الدعم،مما يتطلب لا مركزية في القيادة وإدارة أعمال القتال.
نظرية الحرب الخاطفة وتطبيقتها
الجزء الثاني
سادساً: أساليب الجيوب والاندفاع
1. إن التنظيم النظري للتفوق المحلي، أي السكوربنكت، الذي يضغط باستمرار على النقط المحلية الضعيفة، يؤدى إلى تكوين الجيوب، التي تعد من مظاهر المعركة الحديثة بالمفهوم العملي التكتيكي. وهاتان الفكرتان، (السكوربنكت والأوفرلن)، تؤديان إلى التكتيكات المعروفة في العقيدة الألمانية، باسم تكتيكات المساحات والثغرات Tactics of Space and Gap. فالمعركة الحديثة لم تبق تدور على جبهة عريضة، بل تدور على جبهات ضيقة متعددة، في مساحة واسعة. وبهذا فهي تظهر كحلقات من الأعمال المحلية المرتبطة ببعضها، عن طريق مواصلاتها الداخلية، وتنفيذ هذه الأساليب في أعمال الهجوم، يدعو إلى تنظيمات متحركة للسكوربنكت، ويجب أن يكون التنظيم ملائماً لمواقف إدارة المعركة، لا من وجهة نظر التشكيل فقط، بل فيما يختص بالقيادة أيضاً.
2. يتم اختيار اتجاه الاندفاع قبل المعركة، بعد استطلاع جيد، ويتم تعديله في أثناء المعركة، بالضغط في كل اتجاه، والاصطدام المباشر مع العدو، للبحث عن النقط/ الاتجاهات الضعيفة، والتطوير في اتجاه أقل لخطوط مقاومة، واختيار نقطة اندفاع جديدة، ودفع الاحتياطي في اتجاهها. ومن ذلك نجد أن سير عملية اختراق مقاومة العدو، هي سلسلة من الهجوم على أجنحة مقاومة العدو، وتدفق مستمر للقوات المتقدمة من الخلف للأمام، ومحاولة العثور على أسهل الثغرات
مصحوبة بتطويق أجناب أي ثغرة لتوسيعها لعبور القوات الرئيسة.
3. ويعد القتال، بأسلوب سكوربنكت، ذا ثلاث مراحل رئيسة كالآتي:
المرحلة الأولى: تشتيت انتباه العدو المدافع، في كل اتجاه، ويظل جامداً في كل اتجاه.
المرحلة الثانية: المحافظة على التفوق والمبادأة والمفاجأة للقوة المهاجمة.
المرحلة الثالثة: خداع العدو عن النوايا ومهمة الاحتياطي.
4. عُرف أسلوب سكوربنكت عند الفرنسيين باسم Effort Principal أي المجهود الرئيس أما الأوفرلن، فعرف باسمEnlevement، أي التطوير أو التصعيد. غير أن أهمية هذين الأسلوبين عند الفرنسيين أقل، وتغلب عليها الناحية العلمية، أما عند الألمان، فإنها أخذت اهتماماً عالياً، وغلبت عليها الناحيتان العلمية والعملية، ويمكن تطبيقها على المستوى التكتيكي والتعبويوالإستراتيجي.
سابعاً: الهجوم في مواجهة ضيقة
تعود معركة الجبهة الضيقة إلى تعليمات كلاوزفيتز، مع تطويرها لتتلاءم مع طبيعة الحرب الحديثة. وتعد نظم التسليح، والمبادأة، والمفاجأة، والسرعة مفاتيح النصر التي يمكن، في بعض الحالات، أن تغني عن التفوق في القوات. كما أن حصول القوات المدرعة والميكانيكية والقوات الجوية على المفاجأة والسرعة أكثر سهولة.
إن استخدام القوات المدرعة والميكانيكية، جعل من الممكن استخدام الأفكار الكلاسيكية الخاصة بتركيز الجهود، عند النقطة الحاسمة، ولكن بشكل جديد، والذي أطلق عليه نقطة الاندفاع Thrust Point التي يمكن تغييرها في المسافة أو الاتجاه، كما يمكن تحويل الجهود الرئيسة في اتجاه أضعف نقط العدو. كما أن القوات المدرعة والميكانيكية، جعلت من الممكن الاحتفاظ بالاحتياطي الإستراتيجي، على عمق حوالي 200 ـ 300 كم من الحد الأمامي للدفاع، مما يحقق إمكانية استخدامه في أكثر من اتجاه، لا في اتجاه واحد، وهو ما أطلق عليه “التركيز المرن أو عدم التركيز“، وهناك مقولة مشهورة لكلاوزفيتز: “ازحفوا متفرقين، واضربوا معاً“.
وكان نابليون يجعل عدوه في حيرة، خاصة في تحديد نقطة تجمع القوات لخوض المعركة، وجعل العدو في شك دائم في تحديد اتجاه الضربة الرئيسية، مما يحرم العدو من تجميع قواته لصد الهجوم من النقطة المحتملة.
ثامناً: شروط اختيار نقطة الاندفاع الإستراتيجي
1. توفر طرق ومحاور للانتشار والتغلغل في عمق العدو، بعد تجاوز نقطة الاندفاع.
2. أن تكون في منطقة لا تخدم استخدام العدو لاحتياطيه الإستراتيجي، مثل عدم توفر طرق ومحاور لاحتياطي العدو، أو وجود موانع طبيعية أو صناعية أو بعيدة نسبياً، من حيث المسافة والموقع، مع إمكانية اتخاذ تدابير مناسبة لعزل احتياطي العدو الإستراتيجي.
3. أن تحقق إمكانية تحويل الاندفاع بسرعة في اتجاه جديد، ولذلك يلزم توافر شبكة طرق عرضية للمناورة الجانبية، ويمكن أن تسمح بتقدم القوات بسرعة حوالي 15ـ20 كم/ ساعة، مع إمكانية إجراء تحرك لوحدات متعددة؛ بحيث تظهر كأنها متجهة إلى نقطة معينة ثم تحويل اتجاه تحركها، في آخر لحظة، إلى الاتجاه الحقيقي.
تاسعاً: أهمية السرية والخداع
1. سرية التخطيط والتنفيذ، ومنها حظر خطة السير التفصيلية، وتقتصر على مجموعة معينة من ضباط القيادة، وحظر نشر نقطة الاندفاع الحقيقية وتحديدها، في آخر لحظة ممكنة.
2. كما أن إجراء الخداع يُعد من المسائل المهمة لخداع العدو، عن اتجاه التقدم، ونقط الاندفاع، وتركيز الجهود.
عاشراً: مزايا الهجوم في مواجهة ضيقة
تهاجم التشكيلات المدرعة، في شكل مجموعات قتال وعلى موجات متتالية في جبهة ضيقة وليست واسعة،ومن مزايا الهجوم الآتي:
1. قلة عدد الأسلحة المضادة للدبابات في مواجهة الهجوم الضيقة، عنها في المواجهة الواسعة.
2. سهولة السيطرة وإدارة المعركة للقوات التي تهاجم في مواجهة ضيقة.
3. تحقُّقُ إمكانية حشد نيران المدفعية والقوات الجويةُ وتركيزها على أهداف العدو في المواجهة الضيقة، وتحقيق كثافة نيرانية عالية ومؤثرة.
4. مثال (افتراضي)
أ. فرقة مشاة للعدو تدافع في مواجهة ثمانية كيلومترات، وتملك 80 قطعة مضادة للدبابات، والقوة المهاجمة لواء مدرع، بقوة 100 دبابة، تهاجم في مواجهة كم واحد، وعلى ذلك، سوف يكون في مواجهتها من 10-15 قطعة مضادة للدبابات، منها 10 قطع من النسق الأول، وفي العمق خمس قطع مضادة للدبابات.
ب. سرعة الدبابة 500 متر كل دقيقتان.
ج. معدل أداء السلاح المضاد للدبابات 10 طلقات/ دقيقة يصل منها 50% إلى الهدف، أي تحقق إصابة 50% من الدبابات المهاجمة في النسق الأول.
د. في حالة الهجوم بمجموعات قتال متتالية، فإن القوة المهاجمة في النسق الأول تخسر حتى 16 دبابة، وفي حالة الهجوم بمجموعتي قتال في النسق الأول، تكون الخسائر حتى 35 دبابة، ويكون باقي قوة اللواء المدرع، وباقي قوة الفرقة المدرعة قادرين على مواصلة الهجوم.
هـ. وعلى ذلك يكون الهجوم في مواجهة كم واحد، ومواجهة 10ـ 15 قطعة مضادة للدبابات، أفضل من الهجوم في مواجهة ثمانية كم ومواجهة 80 قطعة مضادة للدبابات
حادي عشر: استخدام القوات
1. القوات المدرعة والميكانيكية
يحتاج عمل القوات المدرعة والميكانيكية، إلى تنظيم خاص للفرق المدرعة والميكانيكية، لتنظيم العمل في شكل مجموعات قتال، تشمل قوة مدرعة وقوة ميكانيكية، ويتطلب إعداد القوات الميكانيكية.
وتدريبهم على اقتحام النقط القوية، وتوفير تجهيزات إدارية، وتسليحاً ودعماً من المهندسين العسكريين لتنفيذ هذه المهمة، ويمكن توفير قوات خاصة؛ لتنفيذ مهمة اقتحام النقط القوية للعدو
في حالة هجوم جيش أو فيلق مكون من “فرقتين مدرعتين وثلاث أو أربع فرق ميكانيكية وفرقة مشاة إضافة إلى قوات خاصة“، فإن تسلسل الهجوم يبدأ بدفع فرقة مدرعة، قوة اقتحام، والاحتفاظ بالفرقة الأخرى، في الاحتياط، تستخدم عند فشل الفرقة الأولى، أو عند تحويل نقطة الاندفاع إلى اتجاه آخر، مع دفع فرقتين ميكانيكيتين لتوسيع ثغرة الاختراق بتخصيص فرقة للعمل على كل جانب، وتقوم الفرقة الثالثة الميكانيكية، أو القوات الخاصة، أو كلاهما، باقتحام مواقع العدو من الخلف، وتبقى الفرقة الرابعة الميكانيكية فيالاحتياط، وتستخدم فرقة المشاة لتوسيع ثغرة الاختراق.
يتم الهجوم عادة في مواجهة حتى 20كم للفرقة (طبقا ً للعقيدة الألمانيه ) ويخصص لها من 2-3 نقط اندفاع رئيسية، ومثلها تكون ثانوية، كل منها للقيام بعملية اختراق، في مواجهة 1-2كم، مع إسكات العدو على أجناب الثغرة، بنيران المدفعية والقوات الجوية، واستمرار توسيع الثغرة، عن طريق مهاجمة الأجناب والمؤخرة، ولا يدخل الثغرة باقي القوات الرئيسة المخصصة لتطوير الهجوموالمطاردة، إلا بعد توسيع الثغرة لتصل إلى 3-4كم.
ينفذ الهجوم المنظم بقوات مدرعة، على أساس الاندفاع بقوة عالية أكثر منه تغلغلاً، حيث إن التغلغل يعتبر أكثر بطئاً، في بحثه عن النقط الضعيفة. كما أن استخدام القوة المدرعة في الاندفاع المدمر بالقوة، يجعل من الممكن للقوات الميكانيكية والقوات الخاصة، تطويق النقط القوية للعدو من الأجناب والمؤخرة، مع قيام المشاة بتوسيع ثغرة الاختراق وتعميقها.
فأولاً، يكون الاختراق بالقوات المدرعة، لتحقيق نجاح تكتيكي محلي، ثم توسيع الثغرات بقوات المشاة بالتعاون مع القوات الخاصة، وفي الوقت نفسه يتم تطوير الهجوم في العمق، وتحويل النجاح التكتيكي إلى نجاح إستراتيجي.
تعمل القوات المدرعة في شكل مجموعات، ويستخدم طاقم الدبابة، على أنه أساس في نقطة الاندفاع، وعندما يواجهون موقعاً
دفاعياً ليس فيه نقط ضعف ظاهرة وليس له أجناب معرضة، فإنه يتم التقدم وتمزيق أحد الأجناب بالقوة المطلقة.
2. استخدام المدفعية
يتطلب التطور في نظم التسليح وأساليب القتال للهجوم الخاطف، تنظيماً خاصاً للمدفعية الملحقة أو المعاونة، وأيضاً لا مركزية في القيادة والسيطرة وإدارة النيران، مع التوسع في ميكنة المدفعية، لتكون ذاتية الحركة، لخدمة سرعة تطور أعمال القتال في الهجوم الخاطف.
تستخدم نيران المدفعية بحشد وكثافة عالية، في نقط الاندفاع وثغرات الاختراق، مع إسكات العدو على الأجناب.
3. الاستطلاع
يعتمد نجاح الهجوم الخاطف، على معلومات الاستطلاع، لتحديد النقط الضعيفة في دفاعات العدو وأجنابه المعرضة، وأوضاع احتياطاته واستخدامها المحتمل.
ينفذ “استطلاع ضباط” لضباط هيئة القيادة وقادة التشكيلات والوحدات، لتأكيد معلومات الاستطلاع عن نقط الاندفاع الرئيسة والتبادلية.
يستخدم “الاستطلاع الجوي“، لعدة قطاعات من الجبهة، وفي العمق، لتوفير معلومات عن دفاعات العدو واحتياطاته ومركز ثقله، وطبيعة الأرض في العمق.
ينفذ “استطلاع بقوة” لأحد القطاعات، وفي حالة النجاح، تستغل الثغرة لتكون نقطة اندفاع للقوات المدرعة، وفي هذه الحالة ينفذ الاستطلاع بقوة في مواجهة 300- 500م، ومحاولة فتح ثغرة في اتجاهها، بالتعاون مع نيران المدفعية والقوات الجوية.
4. القوات الجوية
أصبحت القوات الجوية، مطرقة الحرب الحديثة، في ميدان القتال، التي أضافت بعداً ثالثاً للمعارك الحديثة، إذ إن المعركة الحديثة، هي قتال من أجل السيطرة على أرض المعركة، في المواجهة، والعمق، وفي الجو.
وزيادة كثافة النيران المؤثرة على العدو، إضافة إلى استخدام القذف الجوي تظهر أهمية القوة الجوية في الحرب الخاطفة، في تدمير العدو في العمق ، في بعض المواقف الطارئة، بديلاً لنيران المدفعية
في حالة تعثرها عن ملاحقة سرعة تقدم القوات المدرعة والميكانيكية.
تنفذ القوات الجوية مهام الاستطلاع الجوى، والحماية، والمعاونة، والنقل والإمداد، والإبرار والإسقاط الجوي، والقذف الجوي البعيد المدى.
5. القيادة والسيطرة
تتولى هيئة القيادة مهمة التخطيط الجيد لتحرك القوات، والهجوم الخاطف، وتطوير الهجوم في العمق، وتنسيق عمل القوات، واستخدام الإمكانيات المتاحة، ومن الضروري، أن تكون هيئة القيادة، قادرة على العمل بكفاءة وسرعة ودقة، لكل التفصيلات المهمة.
تعنى هيئة القيادة باختيار أكثر من نقطة اندفاع، واختيار أفضلها في اللحظة الأخيرة، وإعداد خطط بديلة، تتمشى مع تطور المعركة، حتى يكونوا دائماً على استعداد لتطوير التخطيط، من أجل مواجهة التغير السريع، في عملية نقطة الاندفاع، سواء باتخاذ اتجاه جديد أو قطاع جديد.
بحث وتجميع معلومات
د- عبد الله عمران
احمد عادل
احمد زايد
ا لحرب الخاطفة والحرب الشاملة
د. محمد عزت محمد علي
تتغير الأسس الإستراتيجية للحرب كثيراً مع مرور الزمن، بل إن معظم العناصر الرئيسة للإستراتيجية تبقى قابلة للتنفيذ على المدى الطويل، كما يمكن الخروج من تحليل واستقراء المعارك الحربية بدروس يمكن الاستفادة منها في التخطيط لمعارك حديثة في الوقت الحاضر، وسنعرض هنا لنوعين من الحروب كان لهما الأثر الكبير في التاريخ العسكري الحديث، وهما: الحرب الخاطفة، والحرب الشاملة.
أولاً: الحرب الخاطفة
تُعرف الحرب الخاطفة بأنها: (أسلوب خاص في تكتيكات القتال يقوم على استخدام الطيران والقوات المدرعة والقوات الميكانيكية في تحقيق اختراق عميق داخل جبهة العدو، من أجل قطع خطوط إمداداته وتدمير مراكزه القيادية والإدارية وتطويق دفاعاته). وأول من اعتنقها ودعا إليها في عشرينيات القرن الماضي البريطاني (ليدل هارت)، الذي أطلق عليها: “إستراتيجية الاقتراب غير المباشر”، و البريطاني (جون فولر) الذي أخذ ينشر أفكاره التكتيكية التي ركّزت على ضرورة استخدام الدبابات في تعاون وثيق مع طائرات الإسناد التكتيكي المباشر لقطع خطوط مواصلات العدو، وإيقاع الفوضى في مناطقه الخلفية.
متطلبات الحرب الخاطفة
ويرى الخبيران البريطانيان (فولر) و (هارت) أن الاختراق الأوّل للجبهة يجب أن يتم بواسطة التعاون الوثيق بين حشود المدرعات التي ترتكز على واجهة ضيّقة قد تصل إلى عدة كيلومترات، وبين القاذفات المقاتلة التي تقدّم دعماً تكتيكياً، إضافة إلى الدعم الجوي غير المباشر المتمثل في قصف خطوط مواصلات العدو ومراكزه الإدارية والقيادية في العمق العملياتي. وتتطلب عمليات الحرب الخاطفة درجة عالية من التفوّق الجوي وسرعة الحركة من ضباط يتحلّون بقدر كبير من الخبرة والمرونة، مع الاعتماد على عنصر المفاجأة وبطء رد فعل العدو، وضعف سيطرته الجوية، مع استغلال عامل السرعة في التخطيط والتنفيذ كسلاح نفسي لزلزلة العدو، وزرع الاضطراب والفوضى في هيكل أوضاعه الميدانية، علاوة على الغموض في عمقه ومؤخرته.
من أشهر عمليات الحرب الخاطفة
لعل من أشهر عمليات الحرب الخاطفة ما قامت به القوات الألمانية خلال مهاجمتها لأراضي الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، وعمليات الإنزال في (كوريا) عام 1950م، وعمليات الكيان الصهيوني في حروبه ضد العرب، وكلها باستثناء حرب أكتوبر 1973م كانت معتمدة على الضربة الإجهاضية والمباغتة، ثم نقل المعركة إلى أرض العرب، وقد ظهر ذلك جليّاً في حرب عام 1967م، التي شنّتها إسرائيل بحجة احتشاد القوات العربية على حدودها وسحب القوات الدولية، أما في حرب أكتوبر 1973م، فقد شملت الموجة الأولى من هجوم الطيران المصري أكثر من (200) طائرة، والهجوم السوري ما يقرب من مئة طائرة، وتحقق النصر للعرب، لأنهم أخذوا زمام المبادأة.
ثانياً: الحرب الشاملة
تحاول الجيوش تحقيق الحسم عن طريق الحشد في ميدان المعركة، ولكن ظهور الحرب الشاملة المزوّدة بأسلحة الثورة الصناعية وأحدث التكنولوجيات جعل من العسير تطبيق ذلك المبدأ، حيث إن قوة الفتك التي تتميز بها الأسلحة الجديدة أصبحت قادرة على تحقيق التدمير الشامل، كما اتضح أن حشد الجيوش يجعل منها لقمة سائغة للعدو بمجرد اكتشافها، وتحديد مواقعها، إضافة إلى صعوبة توفير الإمداد والتموين للجيوش كبيرة الحجم لمدة طويلة.
وتُعرف الحرب الشاملة بأنها: (الحرب التي لا تفرِّق بين الجبهة والداخل، وتطبع جميع نواحي وأنشطة الحياة بطابعها، فهي لا تفرِّق بين الحرب العسكرية على الحدود والحرب على الجبهة الداخلية التي تشمل الناس، وطرق المواصلات، والجسور، والموانئ، والمرافق).
وفي الحرب الشاملة، تستغل الحرب النفسية من أجل زعزعة معنويات المدنيين والعسكريين بضرب المدن والعواصم، حتى تضطر الخصم إلى سرعة الاستسلام، كما تُسخَّر فيها كل الأسلحة والمخترعات العلمية من طائرات، وحاملات طائرات، وغواصات، ومظليين، وحتى القنابل الذرية في خدمة المعارك، إضافة إلى الحرب الاقتصادية التي يتم فيها القصف الجوي للمراكز الصناعية بهدف تدمير القاعدة الاقتصادية التي يعتمد عليها المجهود الحربي لدى العدو، في الوقت الذي يتم فيه تجنيد جميع الموارد البشرية والاقتصادية والتكنولوجية للدولة، لتوفير متطلبات الحرب الشاملة.
وتعتبر الحرب العالمية الثانية أوضح مثال للحرب الشاملة، وأكثرها كلفة في تاريخ البشرية، وذلك نظراً لاتساع رقعة الحرب وتعدد مسارح المعارك، وسقوط ما يقرب من خمسين مليوناً من الضحايا بين عسكريين ومدنيين، وقد بدأت هذه الحرب بنزاع دولي في آسيا في يوليو من عام 1937م، وانتقلت إلى أوروبا في سبتمبر 1939م، ثم انتهت في عام 1945م باستسلام اليابان وهزيمة دول المحور وانتصار الحلفاء.
وقد نشبت الحرب العالمية الثانية لأسباب عديدة، أبرزها: هجوم ألمانيا على بولندا، وماتلاه من إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا، و إصرار ألمانيا على تطبيق نظ